فرنسا والنفط الجزائري

فرنسا والنفط الجزائري




محاولات التنقيب الفرنسية عن النفط في الجزائر



يرجع تاريخ المحاولات الأولى للبحث عن النفط في الجزائر إلى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر حيث بدأت فرنسا عام 1870م بأولى محاولاتها للبحث عن مكامن النفط في الجزائر وتركزت تلك المحاولات في المناطق الشمالية التي كانت تظهر فيها طفوح نفطية فوق سطح الأرض. لكن تلك الجهود الأولى لم تسفر إلا على استخراج كميات قليلة من النفط لعدم جدواها وانتظامها كما انها لم تكن مدعمة بالوسائل الفنية الحديثة فضلاً عن ضعف الإمكانيات المالية الضرورية لمثل تلك العمليات.

بالرغم من ذلك، فقد كللت تلك المحاولات باكتشاف حقول نفطية صغيرة، ففي عام 1895م اكتشف حقل عين الزفت في ولاية غليزان غرب الجزائر الذي ظل ينتج حوالي 50 ألف طن سنوياً حتى عام 1925م، ثم تلا ذلك اكتشاف حقل تليونت الواقع في شمال غرب الجزائر الذي بدأ بالإنتاج عام 1914م وكان ينتج ما يقرب 30 ألف طن حتى نضوبه في عام 1940م.

اتجهت أنظار الحكومة الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية صوب الصحراء الجزائرية بشكل أكثر جدية وبإمكانيات تكنولوجية ومالية كبيرة، لعلها تجد ضالتها "النفط" فيها، التي أصبحت بحاجة ماسة له أكثر من أي وقت مضى فقد كانت فرنسا تعاني من مشاكل جمة في توفير احتياجاتها من النفط والمنتوجات النفطية إذ كان اعتمادها أساساً على مصادر خارجية، كما استلزمت عملية إعادة إعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية وعملية النهوض بالإقتصاد المزيد من بذل الجهود لتأمين مصادر النفط لتلبية الطلب المتزايد، واضطرار الحكومة الفرنسية إلى تسديد أثمان احتياجاتها من النفط ومشتقاته بالعملات الأجنبية الصعبة مما زاد من الضغط على ميزان المدفوعات الفرنسي، وعليه فقد أصبحت الصحراء الجزائرية أملاً لرجال المال والاقتصاد والسياسة في فرنسا.

لذا أدركت فرنسا أن مصالحها الحيوية تحتم عليها الاتجاه صوب مستعمراتها في إفريقيا، وكانت الجزائر في مقدمة المناطق التي شهدت هذا النشاط الجديد، ومما شجع فرنسا كثيرًا قرب الجزائر التي كانت الطبقة السياسية الفرنسية تعدها جزءا من فرنسا وأن أثمان النفط المتوقع العثور عليه يعني توفير مبالغ ضخمة من العملات الصعبة، لذلك بدت الجزائر في أنظار الكثير من المهتمين بشؤون الطاقة من الفرنسيين مكاناً أكثر أمناً وأوفر حظا من أي منطقة أخرى، لذلك فإن فرنسا أعادت التأكيد بان الجزائر جزء من التراب الفرنسي.



 أولى الإكتشافات النفطية في الجزائر



شرعت الحكومة الفرنسية بإجراء المسح الجيولوجي والكشف والتنقيب ومن ثم الحفر في المناطق التي كان تركيبها الجيولوجي يشير إلى وجود مكامن نفطية فيها فتم إنشاء مكتب الأبحاث البترولية B.R.P Bureau des Recherches Petrolieres وهي هيأة حكومية أسندت إليها مهام رسم سياسة عامة تقوم عليها برامج كل العمليات النفطية وتقديم المعونات المالية للشركات العاملة، ومن أجل التطبيق الفعلي لهذه السياسة ووضعها حيز التنفيذ تم إنشاء الشركة الوطنية للبحث واستغلال بترول الجزائر Société nationale de recherche et d'exploitation de pétrole en Algérie S.N.REPAL وذلك عام 1946م التي ركزت أعمالها في البدأ في منطقة الشمال، وقد انتهت هناك بالعثور على حقلين للنفط هما حقل "وادي القطران" الواقع بالقرب من منطقة سور الغزلان بولاية المسيلة على بعد 100 كم جنوب الجزائر العاصمة في عام 1948م. وقد كان هذا الحقل معروفاً لدى سكان المنطقة إذ كانوا يستخدمون زيته الطافي على سطح الأرض للاستعمالات الطبية، وبدأ هذا الحقل بالإنتاج عام 1949م أي بعد عام من اكتشافه وبمعدل 84 ألف طن سنويا. أما الحقل الثاني فهو حقل جبل العنق قرب الحدود التونسية وقد تم اكتشافه في عام 1960م.

وقد بلغ إنتاج حقل وادي القطران 84400 طن خلال ذروته سنة 1953م ثم تضاءل إلى 5181 طن سنة 1962م. كما بلغ إنتاج حقل جبل العنق 5003 طن سنة 1962م بعد أن كان 350 طن بداية استغلاله عام 1960م.

ولقد جرت محاولات بحث أخرى في منطقة شرق قسنطينة إلا أن النتائج لم تكن مشجعة واستمرت الأبحاث في تلك المناطق الشمالية نظرًا لسهولة إنتاجها ونقلها وتسويقها مقارنة بالمناطق الصحراوية التي تفتقر حتى أواخر الأربعينيات إلى ابسط شروط الاستثمار مثل الطرق وشبكات الاتصال وتوفر المياه.

ونتيجة للانخفاض المستمر في إنتاج المناطق الشمالية رغم كل الجهود المبذولة فقد اتجه الاهتمام الفرنسي وبكل قوة إلى اقتحام الصحراء الجزائرية، لاسيما بعد وجود دلائل على إمكانية وجود النفط فيها حسب ملاحظات بعض المختصين الجيولوجيين في العشرينيات من القرن العشرين أمثال كيليان Kilian ومونشكوف Menchikoff الذين أنجزا أعمالاً أولية تشير إلى احتمال وجود النفط في الصحراء غير أن السلطات الفرنسية لم تتابع ذلك النشاط آنذاك.

مُنحت أولى رُخص الإستكشافات للشركات الفرنسية في الصحراء الجزائرية بين عامي 1952 و 1953م إلى كل من شركتي S.N.REPAL وٕالى شركة البترول الفرنسية Compagnie française des pétroles (توتال TOTAL حاليا).

كما هو واضحٌ إذًا، مُنحت معظم تراخيص التنقيب عن النفط في الصحراء الجزائرية، إلى شركات فرنسية خالصة لتخوُّف الحكومة الفرنسية من خروج النفط الجزائري من دائرة النفوذ الفرنسي في حال اكتشافه بكميات كبيرة وما يتركه ذلك من أثر على الجانب السياسي لاسيما وأنها دولة محتلة للجزائر.

تبعاً لذلك بدأت أعمال التنقيب بصورة جدية في الصحراء الجزائرية منذ عام 1952م وغطت رخص التنقيب خلال عامي 1952 و1953م مساحة تقدر ب500 ألف كلم مربع، في الوقت الذي كانت السلطات الفرنسية المختصة تقدر مساحة المناطق التي يحتمل أن تحتوي على مكامن نفطية وينبغي أن يشملها التنقيب بما يتجاوز 1،800،000 كلم مربع.

تحققت الأهداف في عام 1955م ، إذ تم العثور على أول حقل للنفط وهو حقل عجيلة (حوض إليزي، الجنوب الشرقي) من قبل شركة كريبس CREPS الفرنسية ويقع ضمن ما يُعرف بحقول حوض بولينياك .Polignac ومنذ هذا النجاح جندت الحكومة الفرنسية ثلث نفقاتها التي كانت توجه للأبحاث النفطية في مستعمراتها وخصصتها ابتداءً من عام 1955م للأبحاث التمهيدية والتنقيب في الصحراء الشرقية الجزائرية الذي تلاه اكتشاف أكبر الحقول إنتاجاً وهو حقل زرزاتين في عام 1958م، فضلاً عن اكتشافها بعد ذلك حقولاً اقل أهمية وهي حقول تين فوي وتيقنتورين و أهنيت وتابانكور وكلتا وتامادنيت...، وجميع الآبار المنتجة في هذه المنطقة قليلة الغور مما أدى إلى خفض نفقات الاستخراج فيها، وكذلك كانت نسبة الآبار الجافة إلى الآبار المنتجة ضئيلة، فمن ضمن 38 بئرا حُفرت في عجيلة حتى عام 1959م، كانت 33 منها منتجة، فضلاً عن جودة الخام في هذه الحقول فهو من النوع الخفيف، ويكاد لا يحتوي على الكبريت.

أما شركتا S.N. REPAL و C.F.P ،فقد توصلتا إلى اكتشاف منطقة مهمة في تاريخ النفط الجزائري ألا وهي حقل حاسي مسعود في عام 1956م الذي يقع في صحراء الجزائر الوسطى، إذ كانت المنطقة ضمن نطاق أبحاثهما في الجزء الشمالي منه وهو الأقل امتداداً ضمن حصة شركة S.N. REPAL ، بينما كان الجزء الجنوبي منه وهو الجزء الأكبر ضمن حصة شركة C.F.P.

ولقد تأكد للشركتين أن منطقة حاسي مسعود التي تبلغ مساحتها حوالي 1500 كم مربع هي من أكبر المكامن النفطية في الجزائر ويعد نفط هذا الحقل هو الآخر من النوع الخفيف والقريب نسبياً من سطح الأرض.


 استغلال النفط


حاولت الحكومة الفرنسية ومنذ العام 1957م إغراء شركات النفط الغربية لاسيما الكبرى منها للدخول إلى الصحراء الجزائرية للبحث والتنقيب عن النفط فيها لتأمين الإمكانيات الفنية والتكنولوجية المتطورة التي تملكها تلك الشركات في مجال البحث والتنقيب والحفر إذ تتوفر لديها معدات حديثة، وخبرات كبيرة تراكمت لديها من خلال عملها الطويل في هذا المجال هو ما لم يكن يتوفر لفرنسا آنذاك، بالمقابل يساعد توجه الشركات النفطية الغربية لاستثمار أموالها في الصحراء الجزائرية على توثيق الروابط السياسية أكثر مع حكومات البلدان التي تنتمي إليها تلك الشركات مما يعني مؤازرة تلك البلدان لمساعي فرنسا للاحتفاظ بالجزائر، وأخيرًا حاولت فرنسا بتلك الدعوة أن تؤمن أسواق للنفط الجزائري الذي توقعت بأن إنتاجه لا يكفي حاجتها وحسب وٕانما يتعداه إلى حاجة منطقة الفرنك كلها.

إلا أن الشركات النفطية الكبرى لم تستجب في البداية لدعوة الحكومة الفرنسية تلك، لاسيما الأميركية منها، فقد كانت غير واثقة من سياسة فرنسا النفطية في الجزائر، فضلاً عن عدم وضوح مستقبل النفوذ الفرنسي فيها بعد اشتداد الثورة الجزائرية.

لكن فرنسا تشبثت أكثر بالجزائر بعد ظهور تلك الاكتشافات النفطية المهمة، وتأكيد العديد من الدراسات الفرنسية وغيرها بأن احتياطي الجزائر الذي كان يعد من أجود أنواع النفط في العالم كله، لاسيما أن الطبيعة حرمت فرنسا كفايتها من موارد توليد الطاقة كالفحم الحجري والنفط إذا ما قيست بالدول الصناعية الكبرى، وهو ما حز في نفوس المسؤولين الفرنسيين من أصحاب المصالح فكان طمع فرنسا في نفط الجزائر يتجاوز العوامل الاقتصادية المادية إلى عوامل نفسية لها تأثيرها في نفوس أولئك الفرنسيين الذين يريدون لفرنسا عظمة مقارنة بالدول الصناعية الكبرى.

وبالرغم من تصاعد وتيرة الثورة الشعبية الجزائرية ضد الاستعمار، فقد شرعت الحكومة الفرنسية بوضع الخطط بعيدة المدى التي تمكنها من الاستمرار باستغلال نفط الصحراء، فاقترحت في 10 جانفي 1957م تقسيم الجزائر إلى منطقتين، الأولى في الشمال الممتدة على طول الساحل الجزائري، وقالت عنها أنه من الممكن ان تحتفظ باسم الجزائر، والثانية هي كل ما تبقى من الجزائر وأهمها الصحراء وواحاتها والمناطق المجاورة لها من دول مالي، النيجر وتشاد، وأسمتها "المنظمة الاقتصادية لاستغلال الصحراء" ولم تكتف فرنسا بذلك وإنما قامت بتعيين وزير خاص اتخذ من باريس مقرا له أسندت إليه مهمة إدارة شؤون الصحراء، كما خصصت لها خمسة مقاعد في الجمعية الوطنية الفرنسية، كدليل واضح على مدى الأهمية التي باتت فرنسا تنظر بها لنفط الصحراء والجزائر.

ولكي تُحكم فرنسا قبضتها على الساحل الجزائري، اقترحت الإدارة الفرنسية تقسيمه إلى ثلاثة مناطق، منطقة أغلبيتها من المستوطنين، وثانية يكثر فيها اليهود، وثالثة شبه جرداء للجزائريين الأصليين إذا ما تشبثوا باستقلالهم.


 فرنسا وتصدير النفط الجزائري


شهد عام 1958م تصدير أول شحنة من النفط الخام الجزائري من ميناء بجاية باتجاه مدينة مرسيليا الفرنسية وذلك على متن ناقلة النفط "ريغل".

تطلبت عملية نقل النفط الجزائري إلى الساحل مد أنابيب إلى الموانئ الخاصة به وعليه فقد بدأت السلطات الفرنسية بمد خط أنابيب نقل النفط من أعماق الصحراء، لكن مع اشتداد الثورة الجزائرية للاستعمار الفرنسي بما فيها تدمير أنابيب نقل النفط وإعلان جبهة التحرير الوطني في نوفمبر 1957م بأن "الجزائر لن تلتزم بأية معاهدة أو عقود أو اتفاقيات عقدتها أو تعقدها فرنسا باسم الجزائر"، كما أصدر وفد الحكومة الجزائرية المؤقتة لدى هيئة الأمم المتحدة في عام 1958م كتيباً تعرض فيه لمنشآت النفط الفرنسية في الجزائر مؤكداً عزم جبهة التحرير القضاء على أية استثمارات ترمي إلى استغلال ثروة الجزائر الوطنية، بما فيها ثروة الصحراء الكبرى من دون موافقة الجزائر المستقلة، اضطرت فرنسا إلى التخلي عن ذلك المشروع والاستعاضة عنه بمد أنابيب صغيرة ولمسافات محددة، وهكذا مد الفرنسيون أنبوبا يربط بين حاسي مسعود وتوقرت، و خطا آخر يربط منطقة توقرت بمنطقة بسكرة على أن يتم نقل النفط منها عبر عربات السكك الحديد إلى ميناء سكيكدة، ولحماية هذا الخط من هجمات الثوار الجزائريين فقد جندت سلطات الاحتلال الفرنسي إمكانيات عسكرية كبيرة.

ومع ذلك، فقد كان على فرنسا التي أخذ استهلاكها للنفط يزداد بمعدلات كبيرة ومع ازدياد إنتاج النفط الجزائري بأن تفكر بطريقة أخرى لنقل النفط الجزائري وإيصاله إلى الساحل، فشرعت في العام 1959م بمد خط أنابيب أكثر سعة وقدرة على نقل النفط من مراكز الإنتاج إلى موانئ التصدير، وأول خط من هذا النوع هو خط النفط الذي امتد من حوض الحمرا، غرب حقل حاسي مسعود، إلى بجاية وبلغ طوله 600 كلم وبطاقة نقل قاربت 5 ملايين طن سنوياً مع إمكانية زيادة طاقة نقله إلى 14 مليون طن في العام، ثم مدت سلطة الاحتلال الفرنسي خطا آخر من الصحراء إلى الساحل وهو خط إن أمناس-الصخيرة في تونس والذي بلغ طوله 770 كلم بطاقة بلغت 7.5 مليون طن سنويا قابلة للزيادة إلى 15 مليون طن.


 قانون نفط الصحراء الفرنسي وقانون التعدين


أخذت أهمية النفط الجزائري الإقتصادية والإستراتيجية تتزايد مع مرور الوقت بالنسبة لفرنسا، فبدأت تهيئ الأجواء والمتطلبات القوانين التي تسمح لها باستغلاله أسرع استغلال سواء أكان ذلك عن طريق شركاتها أم عن طريق الشركات الأوربية والأمريكية، ونظرا لعدم استجابة الشركات الأجنبية لدعوات فرنسا السابقة، فإنها فكرت في عام 1958م في إصدار قانون نفط خاص بمنطقة الصحراء الجزائرية، وهذا ما حدث في 22 نوفمبر والذي عُرف ب "قانون التعدين الفرنسي" ليحل محل "قانون البترول الصحراوي".

وتضمن هذا القانون نصوصاً مغرية للشركات الأجنبية التي كانت مترددة لعدم وضوح الموقف القانوني العام، أهمها خفض حصة الحكومة إلى أقل من النصف وهو المبدأ الذي نفذ في منطقة الشرق الأوسط مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين إذ احتسبت الأرباح على أساس الأسعار الفعلية لا على أساس الأسعار المعلنة والفرق بين السعرين قد يصل أحياناً إلى حوالي 20 %، أما بالنسبة إلى موضوع تنفيق الريع الذي كان مقداره 12.5 % من قيمة النفط الخام المتحقق من نقطة التصدير مطروحاً منها النفقات المتكبدة بين الحقل ونقطة التصدير، نفقات النقل والتخزين والمناولة، فقد احتسب أيضاً على أساس الأسعار الفعلية، لا على أساس الأسعار المعلنة كما هو معمول به في منطقة الشرق الوسط.

أجاز القانون كذلك موضوع البت للشركات في الحق عند تقدير الضريبة بأن تحسم عن مجمل دخلها السنوي مبلغاً يعادل 27.5 % من قيمة إنتاجها عند الحقول كاحتياط لإعادة تكوين الحقول، تشبه هذه المادة ما موجود في قانون النفط الأمريكي إذ لا يخضع ذلك للضريبة إلا بعد 5 أعوام، فضلاً عن ذلك كانت نسب الاستهلاك المسموح بها للشركات العاملة في صحراء الجزائر عند احتساب دخلها الصافي تزيد عن النسب المماثلة لها في الشركات النفطية العاملة في دول الشرق الأوسط، ومن الواضح جداً من مضمون هذه النصوص أن البلد الذي يملك النفط يستلم من الشركات دخلاً عن كل برميل يقل عما كانت تحصل عليه بلدان الشرق الأوسط الأخرى.

أخضع قانون البترول الشركات الأجنبية الراغبة في العمل في الصحراء الجزائرية للقانون الفرنسي حيث لا يمكنها مزاولة نشاطها في الصحراء إلا عبر فروعها المسجلة في فرنسا مع احتفاظها بحصيلة مبيعاتها النفطية داخل الأراضي الفرنسية، وفي الوقت نفسه حدد القانون موضوع المرجعية القضائية الفرنسية الممثلة ب" مجلس الدولة الفرنسي" بوصفه أعلى محكمة إدارية في فرنسا في حالة حدوث أي نزاع بين السلطة المانحة لرخص التنقيب والشركة صاحبة الرخص.

شجع صدور قانون البترول الصحراوي الشركات على حث الخطى باتجاه الصحراء الجزائرية، فاغتنمت الحكومة الفرنسية الفرصة للحصول على التمويل الكافي لاستغلال حقول الجزائر النفطية، فعمدت إلى تشجيع شركات الاستثمار الفرنسية خاصة، وأهمها الشركة الفرنسية الإفريقية للأبحاث البترولية Francarep وشركة الأبحاث واستغلال البترول Eurafrep وشركة المساهمات والأبحاث والإستغلالات البترولية Coparex وشركة المساهمات البترولية Petropar وشركة الأبحاث والاستغلالات البترولية Omnirex والشركة الوطنية لبترول اكيتان SNPA

وقد أسهمت تلك الشركات في العثور على حقول ذات أهمية في عام 1959م، فقد نجحت الشركة الوطنية لبترول أكيتان في العثور على النفط في الجزائر الوسطى في حقل قاسي العقرب ذو الخصائص النفطية الشبيهة بخصائص حاسي مسعود، إذ يقع على مسافة 80 كم إلى الجنوب، وكانت المنطقة التي جرى البحث فيها تقدر مساحتها ب 2400 كم مربع، وهي المنطقة التي تنازلت عنها SN Repal ومُنحت عام 1958م إلى SNPA التي تملك 51% في الحقل بينما تستحوذ Coparex على 25% و Francarep على 14% بينما تعود 10% المتبقية ل Eurafrep

لم يكن النفط الجزائري حكرًا على الشركات الفرنسية فحسب بل كان للشركات الأمريكية نصيباً منه، فقد بدأ ظهورها في الصحراء الجزائرية يتضح إثر صدور قانون البترول الصحراوي، ولعلنا نجد أن أهم النشاطات النفطية كانت لشركة موبيل Mobil الأمريكية التي كانت تساهم ب25% في امتياز شركة CFP عام 1959م والتي استطاعت ضمن مساهمتها العثور عام 1960م على حقل أوهانيت الذي يقع في حوض بولينياك .وكذلك وفقت شركة Sinclair الأمريكية عام 1962م إلى كشف نفطي مهم في حقل رورد الباقل الذي يعد آنذاك أهم حقل بعد حاسي مسعود ويقع ضمن ما يعرف بحوض أرك الشرقي الكبير، الذي يقع إلى الجنوب الشرقي من حاسي مسعود، وكان ذلك مقدمة لاكتشاف حقول أخرى في المنطقة نفسها التي تقدر مساحتها 1080 كلم مربع، ويمتاز النفط الخام فيه بجودة نوعيته وخلوه من الكبريت.

وفي النصف الأول من عام 1960م أيضا، منحت الحكومة الفرنسية 10 تراخيص جديدة للتنقيب ومن أهم الحاصلين على هذه التراخيص شركة Standard of California وشركة Texaco للنفط فيما وراء البحار، إذ تحصلت كل منهما على حصة قدرها 20%، فضلاً عن ظهور شركات أمريكية أخرى ذات اهتمام بالنفط الجزائري مثل Newmont و Felps و Cities Service

ومن جهة أخرى فقد كان للشركات البريطانية حصة مهمة من النفط الجزائري، فقد حصلت شركة British Petrolium وضمن مساهمتها بنسبة 50% مع شركة CREPS، على ترخيص بالتنقيب في عام 1960م يشغل مساحة 1650 كم مربع في حوض تندوف، وفي عام 1961م وعبر شركات فرعية تابعة لها، تم اشتراك الأخيرة مع شركات تنقيب أخرى في البحث عن النفط في شمال أفريقيا لاسيما شركة CFP الفرنسية، وقد عقدت الشركتان اتفاقاً بالاشتراك لأول مرة مع شركة Coparex و Petropar الفرنسيتين للقيام بأعمال التنقيب في منطقة حاسي طبطاب، وقد أدركت جميع الشركات العاملة في الجزائر أن أسواق أوروبا هي المنفذ الوحيد لتصريف إنتاجها، وأن أفضل أسواقها هي ألمانيا الغربية خاصة لأنها من الدول القليلة التي لا تمتلك شركات نفط كبرى سوى في جانب محدود من شركات التوزيع فيها، وكذلك إيطاليا إذ أن طابعها الاستهلاكي يجعلها من أفضل أسواق النفط الجزائري.

غير أن الحكومة الفرنسية أرادت أن يكون عمل تلك الشركات عن طريق المساهمة في رؤوس أموال الشركات الفرنسية العاملة في الصحراء الجزائرية وتجريدها من كل وسائل العمل والمراقبة والإشراف رغبة منها في استمرار قبضتها على عملية استخراج النفط الجزائري، على أنها كانت تستبعد أي فكرة في أن تسلم مقاليد إنتاج النفط الجزائري في يوم ما إلى سلطة وطنية جزائرية، لذا أخذت بإعداد جملة من التدابير التي تهدف في الأخير إلى استمرار هيمنة فرنسا على مقاليد النفط الجزائري كاملة، ففي ربيع عام 1962م أدخلت أولاً تعديلات على بعض مواد "قانون البترول الصحراوي"، أهمها استبعاد اختصاص مجلس الدولة الفرنسي بالفصل في النزاعات دون منح هذا الاختصاص للمحاكم الجزائرية كما كان يقضي بذلك المنطق السليم والنص، بدلاً عن ذلك مُنح هذا الاختصاص إلى محكمة تحكيم دولية، ثم أن الرقابة الإدارية على الشركات العاملة التي هي في العادة من اختصاص السلطات العامة للبلد المضيف قد أعطيت لهيأة مشتركة جزائرية – فرنسية بدلاً من أن تكون من حق السلطة الجزائرية وحدها، فضلاً عن فرض أولوية للشركات الفرنسية في الحصول على الحقوق النفطية الجديدة في الصحراء الجزائرية، مع إلزام الجزائر بأن تقبل الدفع بالعملة الفرنسية مقابل كافة كميات النفط والغاز الذي تحتاجه فرنسا ومنطقة الفرنك وتستوردها من الصحراء الجزائرية لسد احتياجاتها، وهذا ما يعني إبقاء السيطرة الفرنسية بصورة غير مباشرة على ميزان المدفوعات الجزائري وحرمان الجزائر من العملات الأجنبية التي يمكن أن يؤمنها لها تصدير هذه الكميات النفطية إلى الأسواق غير الفرنسية، وبالتالي ربط الاقتصاد الجزائري بالاقتصاد الفرنسي وتبعيته له.

وبناء على ذلك أسست فرنسا في 8 مارس 1962م، "الهيأة الفنية لاستغلال ثروات باطن الأرض في الصحراء" أو اختصارا "الهيأة الصحراوية" على أساس المساواة والتعادل بين الطرفين الجزائري والفرنسيين وعدت هذه الهيأة التي كانت تدار من قبل مجلس مؤلف من 12 عضواَ، 6 جزائريين و6 فرنسيين، من قبل الوطنيين الجزائريين بأنها محاولة فرنسية لفرض الوصاية على كل العمليات النفطية في الصحراء خاصة أن فرنسا حددت أعمال الهيأة موضوع البحث بما يلي: دراسة شروط وأسباب تنمية الثروات الطبيعية التي تكتنزها الصحراء الجزائرية في إطار التعاون الفرنسي– الجزائري، ودراسة التشريعات اللازمة لتسيير العمل في مجال النفط وسائر الثروات الطبيعية الأخرى قبل أن تصدرها الجزائر كما أوكلت إلى الهيأة المذكورة استلام ودراسة كل الطلبات المتعلقة بمنح أو تعديل الامتيازات النفطية أو المعدنية وأخيرًا ألزم قانون تأسيس الهيأة ضمان المراقبة الإدارية على الشركات العاملة في الصحراء الجزائرية.

لقد كان الهدف من إنشاء "الهيأة الصحراوية" تكبيل الجزائر، ووضع العقبات أمام استخدام حقوق السيادة الوطنية على ثرواتها الوطنية.



 الصحراء الجزائرية والنفط في اتفاقيات إيفيان



سعت فرنسا جديا منذ 1957م لفصل الصحراء عن سائر التراب الجزائري إدارياً، فأصدرت قوانين حاولت منها الإسهام بان الصحراء هي جزء من فرنسا وأسست لها وزارة خاصة لإدارتها، ولم تقف جهود فرنسا عند هذا الحد، وٕانما راحت تحاول بث الخلافات والعداوات بين الجزائر وبين الدولة الأفريقية المجاورة لها، وبزعمها أن الصحراء حق مشترك لجميع البلدان المجاورة لها وعليه فانه من الأفضل إجراء استفتاء لتقرير مصيرها قبل الاستفتاء في الجزائر، غير أن تحرك الثوار الجزائريين السريع أحبط تلك المحاولة الفرنسية الخبيثة.

مع ذلك ظلت فرنسا متمسكة بموقفها مما أدى إلى انقطاع المفاوضات طيلة أشهر النصف الثاني من العام 1961م غير أن موقف جبهة التحرير الوطني الجزائري الثابت والمتمسك بمقررات مؤتمر الصومام لم يترك مجالاً لأحد أن يفكر بالتراجع عن الحقيقة الجغرافية والتاريخية والطبيعية القائلة بأن الصحراء جزء أساسي من التراب الوطني، أدى هذا الموقف والضربات العسكرية الكبيرة التي سددها الثوار الجزائريون لجيش الاحتلال الفرنسي على أكراه فرنسا بأن تعترف بوحدة الوطن الجزائري واستقلاله في نطاق التعاون حتى أمكن التوصل إلى "إتفاقيات إيفيان".

كما هو متوقع، أفردت الإتفاقيات اتفاقية خاصة بكيفية استغلال الثروات الطبيعية الموجودة في باطن الصحراء الجزائرية اشتملت على عدة التزامات، منها تعهد الجزائر بضمان جميع الحقوق النفطية التي اكتسبت قبل استفتاء تقرير المصير، وعليه فان جميع عقود امتيازات النفط وٕانتاجه ونقله تبقى خاضعة لأحكام "قانون البترول الصحراوي" أياً كانت الطبيعة القانونية لتلك الامتيازات وأياً كانت عائدية الأموال بامتناعها عن اتخاذ أي إجراء من شأنه أن يضع عقبة أمام ممارسة تلك الحقوق المكتسبة أو يزيد من الأعباء المترتبة عليها، بالمقابل تعهدت فرنسا للجزائر وضمن إطار السيادة الجزائرية الكاملة على الصحراء بمواصلة الجهود معاً لاستثمار ثروات الصحراء عن طريق "الهيئة الصحراوية" على أن تكون نفقات الاستثمار مناصفة بين فرنسا والجزائر، كما نصت الإتفاقية على أن مجلس إدارة الهيأة المذكورة يكون بالتساوي بين فرنسا والجزائر، كما أعطيت الهيئة المذكورة الحق بالمراقبة الإدارية على الشركات النفطية العاملة في الجزائر، وأن تُستشار بشأن كل القرارات الإستراتيجية والتنظيمية الخاصة بمجمل العمليات النفطية المختلفة في الصحراء.

كما أعطيت الشركات الفرنسية حق الأولوية في الحصول على عقود الإمتيازات إبان الست سنوات الأولى من عمر نفاذ الإتفاقية إذا ما تساوت عروضها مع عروض الشركات الأخرى، فضلاً عن ذلك بينت إتفاقية إيڤيان الخاصة بنفط الصحراء الجزائرية الفرنسي أن دفع أثمان البترول المصدر لفرنسا أو لمنطقة الفرنك هو بالفرنك الفرنسي، على أن يتم حسم الخلافات إذا ما نشبت بين الحكومة الجزائرية والشركات النفطية العاملة في الصحراء بالرجوع إلى محكمة تحكيم دولية.

الواضح جداً أن اتفاقيات ايڤيان التي اعترفت بالسيادة الجزائرية على كامل التراب الجزائري ألزمت الجزائر على الاستمرار بالعمل بقانون البترول الصحراوي الذي حدَّ بشكل كبير من نشاط الحكومة الجزائرية المستقلة الهادفة إلى تأكيد سيطرتها على مواردها الطبيعية وأهمها النفط والتي أجلت معركتها النفطية إلى سنة 1971م، عام تأميم المحروقات، بعد تثبيت دائم للإستقلال.

هناك 3 تعليقات: